الرواية الشفوية

الرواية الشفوية

لقد ركز المركز، وكما يدل اسم المركز، خلال السنوات الأولى من عمره ، على مرحلة الجهاد ضد الغزو الإيطالي، وجمع وثائقه ورواياته من أفواه الذين شاركوا في الجهاد والمقاومة ضد قوات الغزو. وتأتي أهمية الاعتناء بهذه الناحية لأسباب عديدة يأتي في مقدمتها أولا إن المجاهدين الذين لا زالوا على قيد الحياة ، وقت إنشاء المركز، كانوا كبارًا في السن ، ويجب إجراء مقابلات معهم بسرعة قبل أن يختطفهم الموت الذي هو حق لا مندوحة عنه. واختفاء مجاهد يعني ضياع شهادة تاريخية، وثانيا إن مجتمعنا كان تنذر فيه ثقافة التدوين ، ولهذا لم يترك لنا الآباء والأجداد وثائق كثيرة ترصد حركة جهادهم. والتاريخ الشفوي أصبح يمثل جانبا مهما في المجتمعات التي لا تستخدم الكتابة بشكل واسع – ومنها المجتمع الليبي وقت الغزو الاستعماري، ومن هنا اكتسبت الرواية الشفوية أهمية خاصة؛ لأنها تمثل رأي معظم الناس في تلك المرحلة، وبدون هذه الرواية لا يمكننا التعرف على مشاعر الناس تجاه الغزو، وما كان يدور بينهم من أحداث، وما تربطهم من علاقات، وبدونها لا نستطيع كتابة تاريخ حركة الجـهاد.
ومن هذا المنطلق جاء اهتمام مركز جهاد الليبيين للدراسات التاريخية بتبني مشروع تجميع الروايات الشفوية المتعلقة بالتاريخ الليبي، وإعطائها الأولوية المطلقة في برنامجه لجمع مصادر التاريخ الوطني، خصوصًا تلك التي تتحدث عن حركة الجهاد ضد الغزو الإيطالي، ويؤسس شعبة علمية هي الأولى في بنائه التنظيمي، تعنى بهذا الجانب، وهي واحدة من أكبر الشعب العلمية بالمركز ألا وهي شعبة الرواية الشفوية .
وحتى يؤسس عمل هذه الشعبة على أسس علمية متينة ، قام المركز باختيار مجموعة من الباحثين من حملة الليسانس – تخصص تاريخ كباحثين مبتدئين، بهدف إعدادهم علمياً على طرق البحث الميداني وجمع الرواية الشفوية، وقد وفق المركز لاختيار مجموعة نهضت بعبء أعماله التأسيسية الأولى بكل تـفان وجدية. وهؤلاء هم: المبروك علي الساعدي، أحمد عطية مدلل ” التحق بجامعة الفاتح عام 2003 “، مصطفى حامد رحومة ” التحق بجامعة الفاتح عام 2001 “، الهادي سعيد صالح الخمائسي (غادر المركز بعد مشاركته في المرحلتين الأولى والثانية) ، عمرو سعيد بغني ” انتقل إلى رحمـة الله عام 1992 “، علي البوصيري علي، محمد علي أبو شارب، يوسف سالم البرغثي “التحق بجامعة قاريونس عام 1995 “، ومصطفى علي هويدي ” التحق بجامعة الفاتح عام 1990 “، محمد سعيد البوجديدي “تقاعد” عام 1999 ، يوسف الفرجاني (غادر المركز بعد مشاركته في المرحلة الأولى) ، الصادق علي الدبة (غادر المركز بعد مشاركته في المرحلة الأولى) ، محمد عمر عبدالحميد الحاجي (غادر إلى الجامعة بعد انتهاء المرحلة الأولى) ، عامر شكري أبو زويدة (غادر المركز بعد انتهاء المرحلة الأولى).
نظم المركز لهذه المجموعة دورة تدريبية لمدة ثلاثة أشهر بدأت في 23/1/1978 ، تلقوا خلالها تدريباً نظرياً وعملياً حول كيفية جمع الروايات التاريخية المدونة والملفوظة ، بإشراف عالم متخصص له شهرته في هذا الميدان هو الأستاذ الدكتور جان فانسينا Jan Vansina ، الأستاذ بجامعة ويسكونسن الأمريكية والخبير بمنظمة اليونسكو ، وقد بدأ العمل الميداني لهؤلاء الشباب مباشرة بعد انتهاء الدورة التدريبية. وقسمت البلاد إلى 17 منطقة بحثية ، وقد تم توزيع هؤلاء الباحثين على معظم المناطق التي قسمت الجماهيرية على أساسها لتيسير مهمة الباحثين من جهة، ولزيادة الدقة والتحري من جهة أخرى. فأجروا حتى شهر هانيبال/أغسطس 1978، تحت إشراف الدكتور فانسينا مقابلات مع (1051) من المجاهدين، ضمنت 662 شريطاً مدتها 662 ساعة، قام بعدها هؤلاء الباحثون بإجراء مقابلات جديدة مع بعض هؤلاء المجاهدين تختلف في كمها وكيفها عن سابقاتها، وذلك لمجالسة هؤلاء المجاهدين فترات أطول للوقوف على ذكرياتهم في شتى نواحي الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثـقافية على ألا يقل الزمن المسجل للمقابلة الواحدة عن ست ساعات، وعلى أن تكون المقابلة مع شخصيات معينة، تم اختيارها من ألـ 1051 مجاهداً، بمعرفة الأستاذ المشرف بناء على تجربة المقابلات السابقة.
وركزت مقابلات هذه المرحلة التي اشترك في أجرائها عشرة من الباحثين فقط الذين تمّ اختيارهم من المجموعة الأولى ليستمروا في العمل بعد تقييم أعمال المرحلة الأولى، واستمرت هذه المرحلة لمدة أربعة أشهر ابتداء من أول الفاتح/سبتمبر 1978، على مجاهدين ، ظهر من فحوى المقابلات السابقة أن لهم وعياً كاملاً، وإحاطة شاملة بأحداث حركة الجهاد ، والمعارك التي شاركوا فيها ، وأن هناك معلومات في المقابلة الأولى تحتاج إلى زيادة تسليط الضوء عليها ، وأخرى لم تتح له فرصة استكمالها أو سؤاله بشأنها ، وكانت حصيلة هذه المرحلة 198 شريطاً. وتعتبر هذه هي المرحلة الثانية في مشروع جمع روايات الجهاد والتاريخ الشفوي.
وهذا ما جعل المركز يكثـف من نشاطه في جمع روايات الجهاد، ويستعين بمدرسي التاريخ في مدارس التعليم المتوسط في مناطق الجماهيرية المختلفة في تنفيذ المرحلة الثالثة من مشروع جمع الرواية الشفوية، بعد أن تلقوا دورة تدريبية قصيرة في ربيع عام 1979، حول المشروع وكيفية جمع الروايات، وقد زودوا بأدوات العمل من آلات تصوير، وأجهزة تسجيل، انطلقوا في تنفيذ المرحلة الثالثة، التي شارك في تنفيذها (350) مدرساً، تحت إشراف باحثي المركز الأساسيين، وكانت حصيلة بحثهم (1870) شريط كاسيت، سجلت مع 2595 مجاهداً وراوياً.
وفي عام 1981، تمّ تعيين عدد من خرجي شعبة الجهاد بقسم التاريخ بكلية التربية بجامعة الفاتح، وعددهم (9) خريجين. وبعد تلقي دورة تدريبية تشمل محاضرات عامة حول التاريخ الشفوي وجمع الروايات الشفوية، وفن إجراء المقابلات الشخصية، انطلقوا، لتنفيذ المرحلة الرابعة من العمل الميداني، من بداية 1982 وحتى أواخر تلك السنة، وكانت حصيلة هذه الجولة تسجيل (1206) ألف ومائتان وستة أشرطة.
وفي عام 1984 ، خاطب مركز جهاد الليبيين للدراسات التاريخية مصلحة الإحصاء والتعداد مقترحاً تضمين استمارة أو استبيان عن أضرار الحروب الاستعمارية ضمن الاستمارات التي يشملها التعداد، وووفق على هذا الاقتراح، وتلقى العدادون دورة تدريبية في أحد فنادق طرابلس على عملية ملء كراسة الاستبيان. ومن خلال عملهم الإحصائي تمّ ملء مائة ألف كراسة (100000) من مائة ألف أسرة ليبية من مجموع ستمائة ألف أسرة ليبية في ذلك الوقت. ونشرت نتائج هذا الاستبيان في كتاب نشر بعدة لغات أجنبية، إلى جانب اللغة العربية طبعاً.