واحد من ثمانية
الشرق شرق والغرب غرب
الديمقراطية تراث وليست بضاعة للاستيراد
لابد من خلق نظام دو جدور محلية
أن نتلاسن على اتفه الأسباب وبحدة واقتدار ليس عيباً خلقياً فينا لكنه نتاج نشئه قامت على قيم الفروسية المبنية على حب البقاء في طبيعة شديدة القسوة وقلة الموارد، الصحراء لا تنبت العشب إلا بالماء والماء بعيد المنال فهو اما في أعماق الأرض بلوغه يتطلب جهداً عميقاً وعرقاً يتصبب، الاسهل منه المطر . وهذه لا قدرة للإنسان على جمعها ولا نزولها ولا مكان نزولها.
فإذا الإرادة الخارجية قضت بإنزالها في مكان أو زمان لا دخل للإنسان الليبي فيه الذي يجد نفسه مضطراً للاصطراع عليه حتى الموت أحياناً فالبقاء لا يكون إلا للأقوى الأقدر على انتزاع ما يعتبره حقاً له لان بدونه لا نبات ولا حيوان. وبدون النبات والحيوان لا قدرة للإنسان على الحياة علاوة على البقاء في مكان وزمان محدد. وهكذا توزع السكان بين مستقرين ورحل ولكل مصادر رزقه ومتطلبات حياته.
ليبيا عبارة عن بحر رمال واسعة فوقها انتشرت واحات كالبقع على جلد الفهد مع فارق التشبيه فبقع الفهد يجمعها الجلد الواحد الذي تتغذى من القلب الواحد ، الواحات بقع متناثرة وهي في الأساس عبارة عن نبع ماء أحياناً يخرج تلقائياً أو بجهد متواضع يتجمع حوله جماعة يجروه عبر سواقي وجداول لانبات بعض ضرورات الحياة من نخيل وقمح وشعير ومواد للغذاء الذي يدخل من ضمنه الحيوان.
هذه الواحات مثل بقع العسل سرعان ما يتجمع حولها مجموعة بشرية مترابطة اثنيا في البداية لكنها سرعان ما يتزاحم عليها المارون الراغبون والطامعون في حياة مستقرة لا تعتمد حياتها على أقدار الغيب وامطار السماء .
الإنسان فطرياً كغيره يتطلع للأكثر في الصحراء وغيرها وداخل البقع الخضراء مضطر للالتزام بضوابط الحياة مع غيره، من هنا تأتي ضرورات الدين الذي عليه تبني تعاملات ضمان استمرار الحياة، هذه التعاملات تتحول إلى عادات وتقاليد حتى تصبح عرفاً يلتزم به سكان الواحة. لكن بعد الشعور بالإلتقاء الذاتي يطمع المتساكنون في توسيع مصادر حياتهم ورزقهم . هذا يجبر الساكنة إلى التفكير في التعامل مع الآخر في البقع الأقرب والأنفع.
بقع الصحراء كجزر البحر يمكن التغلب على المسافات بالالتزام بضرورات وبضوابط تفرضها ضرورات الحياة ليس في مقدور الإنسان دو العقل التوسعي الاكتفاء بالمتوفر فقط بل التطلع دائماً يكون للأكثر.
عليه جاءت فكرة تجاوز محدودية الواحة إلى السباحة خارجها بطريقة شرعية ومتوازنة النفع بيني وبين جاري . هذه الشروط اوجدت التفكير في التعاون بتسويق الفائض من الإنتاج واستبداله بالنواقص ما يعني التجارة أي تبادل السلع التي لا إمكانية لنقلها من مكان لآخر ومن بقعة لأخرى ومن واحة لواحة إلا بضوابط هذا يعني شد العقل الجمعي الذي فرض ضوابط التعايش الداخلي، للتفكير في إيجاد ضوابط للتعامل الخارجي.
من هنا تحركت جماعة العقلاء أو الكبار، أو ما يسمى بجماعة أو أهل الحل والعقد، الذين أوجدوا وحافظوا على قواعد التعايش الداخلي، للتفكير في سبل وقوانين التعايش الخارجي بها تستطيع الواحة نقل فائضها إلى الأخرى عبر طريق آمن ييسر التحرك بلا معوقات الجوع أحياناً والشح في الموارد ، وبالتالي الموت مما يضطر البعض من مناطق بعيدة للاعتداء وانتزاع حاجاته من الآخر. فتكرار مثل هذه الاعتداءات اضطرت العقل الجماعي أي جماعة الحل والعقد إلى التنازل عن بعض من دخولهم وحتى حرياتهم إلى مؤسسة جامعة هي الدولة التي اسبغوا عليها الصفة الدينية بإعطائها ألقاب دينية مثل الشيخ أو الإمام أو الفقيه تخويفاً وتمكيناً للدولة من أداء واجباتها لتأمين المستقر وحمايته من اعتداء الآخر أي المتنقل الليبي (البدوي) الذي اضطرته الظروف للتنقل المستمر وراء المطر لشربه وشرب حيواناته وتعليفها فإذا غابت أو تأخرت المطر جاع المتنقل فيتحول إلى غرائز طلباً للحياة. عندها يضطر للاعتداء على توابع الدولة ومصدر تمويلها أي المدينة والواحة ومستقريها، الأمر الذي اضطر الدولة عبر جماعة الحل والعقد فيها إلى التفكير في طرق لاستيعاب هذه الشرائح المتنقلة عن طريق التجنيد والتمويل، بهذه الطريقة أضيفت للدولة أعباء إضافية أهمها تأكيد استمرار الأمن وبالتالي مصادر تمويل الدولة أي الحماية من المستقرين بمعنى المزارعين والصناع وغيرهم.
هذه التركيبة المتأزمة بشكل مستمر أدت إلى توسيع دائرة الحل والعقد والاجتماع عند رأس الهرم المتمثل في الشيخ أو الفقيه أو الأمير أو السلطان أي الحكومة أو الدولة التي صار عليها الاجتماع مع العقلاء والفصحاء والفاعلين للإفصاح عن الآراء والحلول داخل مجلس أعلى لأهل الحل والعقد لاقتراح حلول للمشاكل والمستجدات الناجمة أحياناً عن خارجين عن القوانين واللوائح المانعين للاستمرار تدفق البضائع عبر طرق القوافل المصدر الأكثر مردودية ونفعاً للجميع.
وبما أن الدولة ليست دائماً بقوة قادرة على ضبط الأمن بالقوة العسكرية اللازمة ، صار عليها أن تؤكد المانع المعنوي لسلطاتها وهو الدين وهكذا صار التلازم جبري بين الحركة والبركة أو الذنب والعار أو ما يسمى حالياً بالعصي والخزرة .
هذا التوازن كثيراً ما عكرته المطامح الشخصية الفردية أو الجماعية والرغبة في الاستحواذ على المزيد حتى ولو كان على حساب ما أجمع عليه جماعة الحل والعقد داخل إطار الدولة مثل دولة بنو الخطاب في زويلة أو دولة أولاد محمد بمرزك أو دولة القرمانليين بطرابلس أو دولة السنوسين في القرن العشرين والتي نمت وترعرعت في إطار مرحلة مختلفة عن سوابقها. التقنيات الحديثة وثورة البخار التي انبعثت في أوروبا في القرن الثامن عشر وما قبله فرضت وسائل جديدة أهمها التواصل الأوسع والأسرع من الجمال وخطواتها الوئيدة عبر طرق الصحراء التي أصبحت جزءاً من الماضي الميت قياساً على حركة الدراجة
والسيارة والطائرة وما شابهها.
هذه النقلة العاجلة لوسائل المواصلات والحرب وكل الحياة جرئت الأوروبي على التفكير في إعادة السيطرة على ليبيا وكل المنطقة التي أصيبت بدوار وحتى شلل دهنى نتيجة الصدمة التي فاجئها بها الجار الأوروبي .
كل الأنماط المعيشية التي كيفت المنطقة عليها نفسها منذ مئات السنين وكل القيم والمعارف والنظم المعيشية وحتى الاجتماعية التي ورثتها عبر عشرات الأجيال، تفهها وحتى هزمتها وسائط ووسائل الحضارة الغربية الحديثة ، هذا القلق الفكري والشرود الذهني استفاد منه القادم الأوروبي الذي استبدل الأذان بالساعة والجمل والحمار بالدراجة والسيارة والسيف بالمدفع والدبابة والمنظمات الاجتماعية الأهلية وحتى السياسية أي أهل الحل والعقد بالأحزاب والنقابات ، ومنابر المساجد بالإذاعات والمذياع والشمع والفنار بالكهرباء ونقال الماء بالحنفيات وتخطيط المنازل والمدن ذات الشوارع المناسبة للخيول بالمخططات ذات الشوارع المناسبة للسيارات والدراجات ، والحكماء ومجالسهم بالمجالس الحديثة بأسماء جديدة هي مجلس الشيوخ ومجلس النواب بدل مسميات أهل الحل والعقد وحتى الدولة القائمة على البركة والدبوس نزع عنها الغطاء الديني بتشريعات وانتخابات لتوصيل ولعزل الحكومات التي تأطرت باطار غربي غريب صارت فيه الدولة تعلن حياة الفرد بشهادة الميلاد وتنهيها بشهادة الوفاة وتعيشها بشهادة حسن السيرة والسلوك، فهي المحي والمميت والمعيش. فالإنسان بدون هذه الشهادات لا وجود له. وهذا نقيض متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم امهاتهم أحرار وكل صلاحيات الدولة التي عرفتها ليبيا وكل المنطقة.
كل هذه التغييرات المبهرة أصابت المجتمع وقيم المجتمع وتوابته وحتى عقله الباطني بالزلزة القوية التي افقدت البعض منطق المقارنة المنصفة نظراً لشواهد الواقع ومغريات الحداثة مقارنة بالنموذج المعيشي السائد.
في هذه الفترة القلقة صار الشك مقبولاً حول التسليم بالظواهر الجديدة والاندماج معها بدل الثبات على المبادي والمسارات الوطنية القديمة والدفاع عنها، هل نرفض المدارس الحديثة والمواصلات الحديثة واللباس الحديث ووسائل الاتصال الجديدة وغيرها من الأمور المعيشية ونصر على مفاهيم الوطنية القديمة وقيمها ونتمسك بها.
كل الخيارات المطروحة كانت صعبة وزاد من صعوبتها مطامع الخصم الأوروبي الحديثة ومخزونة المغري من الوسائل والمغريات ووسائل القوة القادرة على الانتصار نتيجة الاختراعات التي جعلت المقاومة غير قادرة على البقاء في وجه القادم القوي الذي فرض ارادته بقوة سلاحه العصري الذي قضى على اخر شرارات المقاومة بشنق رموزها في مشهد مسرحي مقصود منه الادلال وبث روح اليئس في نفوس الجميع الا القلة التي فضلت اللعب على اوثار السياسة وانتزاع ما يمكن انتزاعه عن طريقها.
لابد من الاعتراف لقادة تلك المرحلة بالفضل رغم تحفظات بعض الصقور بان فصل البركة عن الحركة والتعويل عليها مدعاه للدسائس الأوروبية الحديثة واللعب من وراء الستار على كل القيم التي ترسخت عليها الشرائح الاجتماعية الليبية المتمظهرة في التعاملات الصريحة والالتزامات القائمة على قيم الوضوح والصراحة والأخلاق والقيم جميعها دنست بالوسواس الخناس القادم مع تقنياته المبهرة. وراء كل هذه الاختراعات عقول أخرى تخطط ومفاتيح لأبواب الدسائس والمؤامرات تصنع لتسفيه المنظومة القيمية الليبية القديمة.
والدفع باغراء السلطة والمال لتجاوز التحفظات القيمية والأخلاقية القديمة، والإنسان بطبعه ميال للاسهل تحت غطاء التدرج والمرحلية التي تنجح احياناً لكن احياناً لا تعدو أن تكون فخاخ وشباك رسمها القادم الأقوى لافساد الدمم وتحقيق المغانم الفردية والجهوية والعصبية والفتوية على حساب الوطن والمواطنة . والمفاسد دوماً مرتبطة بالمغانم الخاصة كالطحالب السريعة النمو لاقناع الناظر بنفعها العاجل على حساب التوابت القديمة المرتبطة بالقيم والوقت والجهد لتحقيق النفع العام والدائم والطويل الأجل.
وهي كالسرطان والأمراض الخبيثة بطيئة الحركة وطويلة الأمد، محاسنها واضحة ومفاسدها مدسوسة ومرتبطة بتواقيت وأجال يرسمها الأقوى لتحقيق منافعه وخططه على نسيج عنكبوتي واسع ظاهره الرحمة وباطنه الخبث للايقاع بالضحية في مرامي وحفريات الرشوة والخداع وسدة السلطة وبريق الذهب والثراء تحت غطاء المرحلة والمراحل وهي متى سرت في جسد يصعب اقتلاعها والقضاء على أمراضها إلا بعمليات قيصرية لا تتوفر إلا لقيادات خاصة وشروط يوضع أمامها ألف ممنوع ومحضور.
هذا النمط من التفكير الصعب يقابله تفكير عملي يعتمد على مبدأ خذ وطالب أي اقبل ما يعطى وكيفه للواقع وسخره للتطوير والتغيير، والحجة خير دليل فالقادم الأوروبي في مراحل متقدمة جداً علينا وإذا انتظرنا حتى نوازيه سيهلك الكثير ويضيع الأكثر والأفيد هو عدم رهن الواقع بالطموحات البعيدة المنال، واقعياً نحن في غرفة انعاش وبلقع لا هواء ولا ماء فيه فإذا تعنتنا سننتهي والحكمة تقضي بالاستفادة من المتاح لتطوير الذات وصولاً إلى المطلوب في مراحل قادمة.
هذا النوع من المنطق وجيه وعملي وسريع الفائدة والتحقيق ومنسجم مع القيم الحياتية والدينية الرافضة لتفضيل الموت على الحياة ورفض هلاك النفس التي حرم الله إلا بالحق، وليس كل الحق بل يكفي النصف أو الثلث أو حتى الربع الآن والعمل على تحقيق كل المطلوب في مراحل مستقبلية فيها. ستعمل على انجاز مطالبها والتي من أهمها القدرة على تحقيق المستطاع مرحلياً وتدريجياً حتى نبلغ القدرة الكاملة لتحقيق كل المطلوب، وبالمقارنة بين المطلوب والمندوب انحازت الغالبية للتعامل مع حقائق الواقع والاستفادة من المعطي في إطار عالم جديد لا نملك فيه إلا ما يتاح لنا أو نموت ، وهكذا دخلت ليبيا مرحلة التحديث والتطوير وغيرها من المسميات .
الأفاضل الذين تنادوا لقيادة المرحلة جمعوا بين الأصالة والمعاصرة أو هكذا كانت نواياهم. فبتأصيل التجديد استفادت السلطة الجديدة وقادتها المحترمين من منظومة أهل الحل والعقد أو بالأصح بقايا نظام أهل الحل والعقد مؤطراً في اطر حديد هي مجالس النواب والشيوخ والدولة الاتحادية والدولة الجامعة وهكذا.
بهذه الازدواجية نجحت دولة الاستقلال في تأطير دولة جامعة لكل الشباب الليبيين تحت زعامة رؤساء الزوايا وأبرزها الزاوية السنوسية ما عنى استمرار مفهوم ثقافة البركة والدبوس مع الإصرار السائد والأعم بوجوب السعي الحثيث والمتواصل للنيل من حضارة الغرب عن طريق التقنيات ومكاتب الخبرات وتطوير البنى التحتية والفوقية وحتى الفكرية والمادية حتى نتمكن من اللحاق بهم وبحضارتهم وهكذا صار التنافس سيد الموقف فالأوروبي الكافر بالأمس صار قدوتنا ودليلنا للحياة الأفضل وما عداه تخلف وجمود.
أ.د. محمد الطاهر الجراري
رئيس مجلس إدارة المركز الليبي
للمحفوظات والدراسات التاريخيـــة