أهمية الرواية الشفوية في الاعتراف والاعتذار والتعويض عن جريمة الاستعمار
• إن أي علم لا يخدم الناس ويساعدهم على السيطرة المتوازنة على مجتمعهم ومحيطهم هو علم موضوعي لكنه غير مفيد. الأفضل منه هو الجمع بين الموضوعية والفائدة. وهكذا تصبح تغير النظرة إلى مادة التاريخ من الدراسة الموضوعية المجردة إلى الدراسة الغائية هي خدمة للحاضر والمستقبل.
إن مفهوم العلم للعلم في مجال التاريخ وتحري الموضوعية دون اعتبار لخدمة الحاضر والمستقبل لم يثبت نجاعته بدليل الإصرار على أخطاء الماضي وتكرار التعديات على حقوق الناس ومعاشهم وحياتهم، كما في فلسطين التي تمثل النموذج الأقسى في التغول على حقوق الناس ومعاشهم وحياتهم.
• وفي دراسة صادرة سنة 2006م يحدد الأستاذ نيجاش جيرما Negash Girma نوعين من الاعتذار عن أخطاء الماضي: اختياري وشامل وهو الأفضل كما في حالة الألمان واليهود، واعتذار يأتي بعد تحقيقات وطلبات كما في الحالة الرواندية سنة 1994 والليبية 1911-1943. وحالات معظم الدول العربية التي استعمرتها بريطانيا وفرنسا وغيرهما.
يحدد الأستاذ/ جيرما أربعة شروط للاعتذار وهى:
• الاعتراف بالخطأ و Acknowledgment.
• ( تحمل ) المسؤولية Accountability.
• كشف حقيقة المأساة Truth – Telling عن طريق فتح كل الأرشيفيات ووضع كل الوثائق الخاصة بالمرحلة أمام الدارسين والباحثين والرأي العام عموما.
• الاعتذار الحقيقي لا يتأتى إلا بتأكيد الشعور بالذنب Public Remorse وتأصيله بين الجماهير، التي ارتكبت جرائم باسمها، عن طريق النصب التذكارية والأعمال الأكاديمية والإعلامية.
مبررات الالتجاء للمصادر البديلة:
• المشكل في مثل هذا التوجه التاريخي المتنامي هو المصدر والمنهج، فالدولة أو الجماعة الفاعلة كالمجرم العادي غالباً ما تتستر على أفعالها وتخفي آثار جرائمها مما يؤدى إلى الطعن في وثائقها. وإذا تمسكنا بالمنهج القائم على المصادر الرسمية فقط سوف لن نصل إلى الحقيقة بسهولة لأن الحقيقة مغيبة بفعل أن التقارير الرسمية التي كتبتها الإدارات الاستعمارية تتعمد تجيير الحقيقة لصالحها. ولتعويض هذا النقص في المصدر وجب التوجه إلى الجماعات الواقع عليها الظلم مباشرة للحصول على الفاقد من المعلومات عن طريق الرواية الشفوية والاستبانات التاريخية والوثائق الأسرية والانطباعات أو المذكرات الشخصية.
لكن السؤال في هذه الحالة هو هل يمكن كتابة التاريخ بالاعتماد على وجهات نظر بسيطة وغير مسؤولة؟ وأيضاً هل يستطيع المؤرخ ادعاء الاستقلالية في الحكم والموضوعية في التحليل؟ الإجابة الأولية هي أننا لا نملك بدائل كثيرة غيرها. صحيح أن الرواية الشفوية بها قدر كبير من الذاتية والأنانية والمبالغة والنسيان وغياب كثير من الضوابط الأكاديمية المعروفة. لكنها تظل هي مصدرنا شبه الوحيد للتدقيق والمقارنة مع المادة التي كتبتها القوة المسيطرة للوصول لما يمكن أن نسميه بالحقيقة التاريخية.
من أجل ذلك أوقف عدد من الأساتذة مثل الأستاذ جان فانسينا وغيره جهداً كبيرا لوضع الضوابط والأسس المنهجية والعلمية التي جعلت الرواية الشفوية والاستبانات التاريخية مصادر يمكن الاعتماد عليها في البحث التاريخي داخل الدوائر الأكاديمية.
• إن الدول المستعمرَة بعضها دول فاشلة وأحيانا معدومة السيادة والسلطة المركزية، بمعنى لا توجد بها مراكز إدارية وسياسية واحدة ومستقلة، فليبيا مثلا ظلت في أغلب تاريخها الوسيط والقديم دولة تتقاسم السلطة فيها أكثر من جهة وأكثر من جماعة وطرابلس، المركز الرئيس لها، لم تتمتع بسلطة قوية وموحدة لكل ليبيا لفترة طويلة، فإلى جوارها كانت دائما تقوم مراكز قبلية وجهوية تنافسها السلطة أو على الأقل ترفض التبعية لها.
في مناطق مثل هذه تنعدم السجلات الموثقة لحركة البلاد والعباد أي الأرشيف الرسمي المتعارف عليه في الدول ذات السلطة المركزية الواحدة المستقرة مما يفقد المؤرخ أي سند موضوعي يستطيع المقارنة به مع الوثائق الاستعمارية لاستخلاص الحقيقة التاريخية .
من هنا ندرك أهمية البحث عن مصادر بديلة مثل: الاستبانات التاريخية والروايات الشفوية والوثائق الأسرية.
ومن مميزات التوجه المباشر إلى الناس عن طريق الرواية أو الاستبانات التاريخية أو دراسة وثائقهم هو الاقتراب الشديد من أحاسيس الناس ومشاعرهم وزيادة الاطلاع المباشر على دوافعهم وغاياتهم.
• إن الوثائق الرسمية والسجلات الحكومية بكل أصنافها يعتريها عيب عام وهو التكلف والتصنع وأحياناً تعمد إخفاء الحقائق. فالملك والرئيس والقائد كلهم يسعون بشعور أو لا شعور منهم للدفاع عن أنفسهم وحكوماتهم أو قيادتهم أو حزبهم بذلك سيحاولون تجيير الحقائق لهذه الغاية. وهذا يتطلب جهدا إضافياً من المؤرخ يقارن فيه التقارير ويغربل الكثير من المواد وصولا للحقيقة.
في الرواية والاستبانة تغلب المباشرة والبساطة، كما أن المقارنة في الرواية والاستقصاء ممكنة ومتاحة بصورة أوسع من الوثائق الرسمية التي تكتب لمرة واحدة ويصعب وجود أكثر من وجهة نظر أو بالأكثر وجهات نظر قليلة.
في الرواية الشفوية والاستبانات التاريخية يمكن إعادة المقابلة مع الأشخاص المهمين أكثر من مرة وعلى فترات متقاربة أو متباعدة حسب الحاجة، كما أن إمكانية التوسع في زوايا محددة ممكنة عن طريق وضع الأسئلة بما يخدم هذه الزاوية المعنية أو تلك، كما يمكن التوجه إلى أكثر من شخص أو معاودة المقابلة مع نفس الشخص عدة مرات. هذه الإمكانية غير متاحة في الوثائق الرسمية غير القابلة للزيادة أو النقصان أو الإعادة وكل ما يبقي هو التقليب للأفكار واستقراء الموجود وتأويله على أكثر من اتجاه والتعمق في الألفاظ والمعاني.
* المآخذ على التاريخ الشفوي أو الاستباني:
• من المآخذ التي يمكن ذكرها في التوجه المباشر للناس للوصول للحقيقة هو مدى قدرة الجماعات الشعبية على ملكية المعرفة التاريخية الصحيحة؛ لأنهم في الأغلب الأعم يشاركون في الأحداث لكنهم يجهلون دوافعها وأحيانا خطة سيرها.
ورغم أن من بين المستجوبين بعض القادة والمستفيدين أو على الأقل القريبين من صناع القرار ومسيريه إلا أن السؤال يظل إلى أي مدى تكون هذه المعرفة حقيقة؟ خصوصاً وأن المعرفة تحتاج لقواعد صارمة كي تصمد أمام الضوابط المنهجية الأكاديمية.
ولدعم هذا التوجه الشعبي للمعرفة هناك من يرفض قَصر تعريف المثـقف على الأشخاص القادرين على ترتيب المعارف الواسعة وفقا للقواعد الأكاديمية المعروفة ويوسعه ليشمل الأشخاص ذوي القدرة على الحوار المؤدي للحقيقة في مجالات التاريخ.
من هذه الزاوية قد يفضَّل المحاور الناجح على الشخص الواسع المعرفة أو الأكاديمي المنغلق، الأمر الذي يعطى أهمية للاستقصاءات والحوارات بين المؤرخ والجماعة وصولا إلى الحقيقة بسبب الاتصال المباشر للتعرف على ماضي الجماعات وتجاربها الايجابية والسلبية.
ويزيد من رصيد الثقة في هذه المعرفة المستقاة مباشرة من الناس، الانتشار الواسع لوسائل التقنية الحديثة وبالذات القنوات الفضائية والإذاعات مما كسَّر احتكار أجزاء واسعة من المعرفة ونقلها من قاعات الجامعات والمؤسسات الأكاديمية إلى بيوتات الناس وتجمعاتهم.
• الحيادية التي يتمتع بها المؤرخ قد تفقد هي الأخرى إذا ما سعى المؤرخ اعتماداً على روايات الناس ووثائقهم الأسرية إلى تحقيق هدف يسعى إليه. ومن المعروف أن على المؤرخ عدم افتراض نتائج مسبقة يجير لها كل أدلته. إذ ليس من وظائف المؤرخ إصدار الأحكام حتى لا يتحول إلى قاض في محكمة لأن تلك وظيفة أخري لا تنسجم مع المؤرخ.
تغير النظرة إلى الماضي من مجرد السرد الموضوعي والتجرد والاستعداد لقبول النتائج المبنية على المقدمات إلى اجتهاد يسعى لتحقيق العدالة الانتقالية فيما صار يعرف بسياسة التعويضات Reperation Politics يعنى أن نتعامل مع الماضي بهدف مادي تعويضي. هذا التوجه أثر كثيراً على التوجه الجديد للدراسات التاريخية الأكاديمية التي حولت المؤرخ من مهندس لرسم صورة الماضي كما هو إلى قاضِ يجمع القرائن لإنصاف الجماعات المظلومة.
هذه حقيقة يجب القبول بها ولكن يجب تحصينها بزيادة الضوابط المنهجية لوسائل البحث الاستقصائي من رواية واستبانات ووثائق أسرية. هذه المصادر الثلاثة متى ما طورت مناهجها وتعددت وقورنت بالمصادر الرسمية أمكن التقليل من سلبياتها والوصول إلى نتائج موضوعية عن طريقها.
• إن أخطر ما في التوجه الجديد للدراسات التاريخية هو التخوف من فَقْدِ المؤرخ لاستقلاليته الأكاديمية وانزلاقه لتحقيق مطامع مادية على غرار ما يفعل بعض المحامين والمهندسين. هذا تخوف مشروع لكن يمكن التحكم فيه تماما كما في المسارات العلمية الأخرى . ففي دائرة المحاماة هناك ضوابط أخلاقية ومنهجية صارمة تؤدى بالمحامي إلى نتائج عدلية رائعة.
لكن تنفيذها يعتمد على ضمير المحامي ومنهجيته. ونفس الشيء ينطبق على الكيميائي الذي يفترض أن يوظف منهجه العلمي الأكاديمي في بحوث تؤدى لخير الإنسانية لكن مثل هذه النتيجة تعتمد على ضمير الكيميائي لا المنهج الأكاديمي.
وهكذا يكون على المؤرخ، الراغب في تحقيق الإنصاف للجماعات المظلومة والمساعدة في وضع روادع مستقبلية أمام من يفكر في الاستعمار والسيطرة والظلم، ألا يهمل المنهج الأكاديمي المتعارف عليه لكن عليه أن يضيف له الوسائط الجديدة من رواية شفوية واستبيانات تاريخية ووثائق اسرية. إن إضافة مثل هذه المصادر بكل ضوابطهـا الأكاديمية الصارمة ستمكن الباحث التاريخي من مجالات أوسع للمقارنة والاستنتاج وبذلك قدرة أكبر على الوصول للحقيقة التاريخية التي قد تمنع تكرار الخطأ بسبب النواهي والروادع التي يوجبها التوجه التاريخي الجديد.
،،،،، والســــــــــلام عليكـــــــــــم ،،،،،
(( أ.د. محمــــد الطاهـــر الجـــراري)) رئيس مجلـــس إدارة المركز